تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

لسورة الكهف معانٍ أخرى

فى إحدى المرات التى كنت أقرأ فيها سورة الكهف تذكرت قول إميل سوران الفيلسوف الرومانى: «تعيش عمرك وأنت تكتشف كل يوم شيئا جديدا عن نفسك، ثم يأتى ذلك الأحمق الذى يقول: أنا أعرفك جيدًا»!

 

ومن أسف لا يزال الناس فى عصرنا– على الرغم من أنهم يقرأون سورة الكهف كل يوم جمعة - يزعمون أنهم يعرفونك على حقيقتك بنباهتهم من مجرد معرفتهم ببعض الأشياء الظاهرة عنك وميلهم لتصديق الكلام الشائع المتداول، على الرغم من عدم معقوليته ومخالفته للواقع، ويحكمون على الأمور بالظاهر وبالقدرة على «الكلام المنمق»، ليس فى المعتقدات فقط، وإنما أيضا فى الحياة اليومية وفى إدارة المؤسسات!

وقد ابتلانا الله بأقوام سريعى الاستنتاج والتخمين فى أمور قد غابت عنهم فى عقائد الدين، وأمور قد غابت عنهم فى شئون الدنيا والناس والحياة والتاريخ! ظنا منهم أنهم خبراء وبابوات فى شئون الدين والدنيا! واعتقادا منهم أنهم يعرفون الحقائق من مجرد كلمات سمعوها من هنا أو هناك! أو قياسا منهم للحاضر على الماضي! وهؤلاء أيضا يقرأون سورة الكهف كل يوم جمعة!

والأعجب أن بعض المشتغلين بالعلم والبحث العلمى لا يختلفون كثيرا عن العوام فى تصديق كلام الناس والشائعات دون تثبت وتحقق، وهو مثل غيرهم فى الاستنتاج والتخمين!

وقد كثر المفتون فى عصرنا، المفتون فى أمور الدين، والمفتون فى شئون السياسة والاقتصاد، والمفتون فى أحوال الناس الاجتماعية والمهنية، بل والمفتون فى إرشادك إلى الطرق والأماكن على الرغم من أنهم لا يعرفونها بدقة؛ وعندما تسأله عن مكان يجيبك وهو لا يعرف، فتتوه!

هذا النموذج نفسه متكرر فى كل زمان ومكان فى المجتمعات المتخلفة، من أول إرشادك فى الشارع إلى المكان الذى تبحث عنه، وحتى إرشادك فى مجال العقائد الغيبية وخلق السماوات والأرض والحياة بعد الموت، مرورا بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى! ولا مانع عندهم أيضا من الخوض فى أعراض الناس بناء على ظنيات!

تقرر سورة الكهف أن العلم الدقيق المنضبط غاية يجدر استهدافها: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)، (الكهف: 12).

ولا مجال للإيمان بالمعتقدات اعتمادا على (..قَالُوا...) (الكهف: 4)، بدون علم دقيق منهم أو من تراثهم المنقول عن آبائهم: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ..)، (الكهف: 5).. وإذا خالفت كلمات الناس وكلمات الآباء الواقع والمعقول برهانيا، تصبح كذبا كبيرا، مهما تداولتها الألسن ومهما آمنت بها الجموع: (..كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ..)، (الكهف: 5)..

إن المعيار هو الواقع والمعقول برهانيا، فالتصور غير المعقول الذى يتحول إلى كلمات ينطق الناس بها، يصبح كذبا كبيرا لمخالفته الواقع والعقل البرهانى، ويغدو من أكبر الاجتراءات على الله تعالى- القيام بتحويل المعتقد من «تصور موهوم» إلى «كلمة» تُنطق تنتشر بين الناس.

إن الكلمة المنافية للعقل البرهانى ليست أمرا هينا كما يظن الكثيرون. وهذا ما تنبه له الفخر الرازى فقال: «قَوْلُهُ: (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَكْره جدًّا عِنْدَ العقل، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هذا الذى يقولونه لا يَحْكُمُ بِهِ عَقْلُهُمْ وَفِكْرُهُمُ الْبَتَّةَ لِكَوْنِهِ فِى غاية الفساد وَالْبُطْلَانِ، فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ يَجْرِى بِهِ لسانهم عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُمْ مَعَ أَنَّهَا قَوْلُهُمْ، عُقُولُهُمْ وَفِكْرُهُمْ تَأْبَاهَا وَتَنْفِرُ عَنْهَا»، (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، 21/ 425).

ومثلما يرفض القرآن الكريم الأخذ بالكلمات الرنانة دون علم دقيق، ويرفض حجية أقوال الآباء، فإنه يرفض أيضا آفة توجد فى كل العصور عند معظم الناس فى حياتهم اليومية، وعند بعض رجال الدين، وهى آفة سرعة الاستنتاج والتسرع فى التخمين: (..رَجْمًا بِالْغَيْبِ..) (الكهف: 22)، سواء فى المعتقدات أو فى الأمور العادية! والغيب ليس فقط هو غيب السماوات والأرض، بل هو أيضا كل ما غاب عنك حتى من أمور الحياة الدنيا.. فلا رجم بالغيب فى أمور العقائد ولا رجم بالغيب فى شئون الناس والحياة.

ومع أنهم يقرأون سورة الكهف كل يوم جمعة، فإنهم لا يزالون يفتون فى كل شئ سواء بالتخمين، أو التسرع فى الاستنتاج، أو استنادا لأقوال شائعة غير متحقق من صدقها، أو استدلالا بمرويات ظنية الثبوت موروثة من الكتب الصفراء أو أساطير الأولين. وليس العيب فقط على الذين يفتون بدون علم يقينى، بل العيب أيضا وفى الأساس على الذين يستفتونهم ويسيرون وراءهم: (..وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أحدا)، (الكهف: 22).

وهم يفعلون ذلك أيضا على الرغم من أنهم يقرأون سورة الكهف كل يوم جمعة! تلك السورة الفريدة التى أكدت عدم الإفتاء والاستفتاء فى الأمور الغائبة التى لم يتحدث فيها الوحى أو الواقع أو العلوم الدقيقة. إن معرفة الحقائق تكون عن طريق البحث العلمى القائم على معطيات يقينية، وليس على الأقوال المرسلة: (..وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أحدا)، (الكهف: 22).

وهناك أمور لا يعلمها إلا الله، ولو كان من المفيد أن تعرفها لأخبرها لنا: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أحدًا)، (الكهف: 26).

ومع ذلك لا تزال طوائف تدخل فى جدل واسع مع بعضها البعض، على الرغم ضحالة معارفها، وعلى الرغم من أنهم لا يملكون معلومات دقيقة، وعلى الرغم من أن الوحى نهى عن الإفراط فى الجدل فى الأمور الغائبة: (..فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا..)، (الكهف: 22).

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية