تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ابتسامة حادة، عيون جامدة، مظهر هجين بين الوحوش والأرانب، ورغم ذلك.. تحولت إلى اللعبة المفضلة لدى ملايين الأطفال حول العالم، دمية "لابوبو" ليست مجرد موضة عابرة، بل ظاهرة نفسية واجتماعية تثير قلق الأهل وتكشف عن تحولات خفية في خيال الطفل وعلاقته بالخوف والغرابة، هذا التقرير فما سر هذا التعلق العجيب، وهل هذه اللعبة مجرد وسيلة للمرح.. أم مؤشرًا على اضطراب أعمق؟
جذور فنية
لم تكن دمية لابوبو مشروعاً تجاريا بالأساس، بل خرجت من قلب الفن؛ تعود أصول الشخصية إلى الفنان كاسينج لونغ، الذي نشأ في هولندا، وبدأ حياته بالرسم وكتب الأطفال المصورة، حتى أصبح أول فنان من هونج كونج يحصل على جائزة كتب مصورة في أوروبا.
في عام 2015، أطلق كاسينج سلسلة مصورة بعنوان الوحوش، مزج فيها بين الفولكلور الأوروبي والأساطير الإسكندنافية والرمزية النفسية، وجاءت شخصية لابوبو ككائن خيالي صغير يحمل ملامح غريبة؛ أذنان طويلتان كالأرانب، أسنان حادة، عيون جامدة، وجناحان معدنيان في بعض الإصدارات.
لاحقاً، تعاون كاسينج مع شركة الألعاب الصينية Pop Mart، لتحويل الشخصية إلى دمية حقيقية، وتم إنتاج أكثر من 300 إصدار منها، وفي وقت قصير، اجتاحت اللعبة الأسواق، وتجاوز هاشتاج #labubu حاجز 3.5 مليار مشاهدة على تيك توك.
لكن النجاح التجاري لا يفسر وحده ظاهرة تعلق الأطفال بهذه الدمية "غير المريحة"، التي تثير في كثير من الآباء مشاعر الحذر أو القلق.
فضول الطفولة
توضح الدكتورة سارة ممدوح، استشارية العلاقات الأسرية والتربوية، أن الأطفال لا يرون العالم بعيون الكبار، بل يتفاعلون معه بطريقة مختلفة؛ فبينما تبدو دمية "لابوبو" مرعبة في نظر البالغين، قد يجد فيها الطفل باباً إلى عالم خيالي مليء بالفضول والاكتشاف.
تقول د. سارة: "الخوف هنا ليس شعورًا أصيلاً، بل استجابة استكشافية نابعة من رغبة الطفل في الفهم والتجربة"، وتدعم ذلك بدراسة نشرت في عام 2020 بمجلة Child Development Research، تحت عنوان "تفضيلات الأطفال بين الألعاب المألوفة وغير المألوفة: منظور تطوري"، حيث أظهرت أن الأطفال بين 3 و7 سنوات ينجذبون بشكل ملحوظ إلى الألعاب ذات الصفات الفريدة أو الغريبة، طالما كانت قابلة للفهم أو التفاعل، وفسرت الدراسة هذا السلوك بأن الغرابة تشكل تحديا إدراكيا يجذب انتباه الطفل ويثير فضوله.
وترى د. سارة أن مثل هذه الألعاب قد تكون محفزًا حسيًا وإدراكيًا طبيعيًا في سنوات الطفولة الأولى، لكنها في الوقت نفسه تحذر من الانسياق وراء "الترندات" دون وعي أو رقابة أسرية.
وتشدد على أهمية التوازن، محذرة من الإفراط في تعريض الطفل لدمى ذات ملامح عدوانية، لما قد تسببه من:
- ترسيخ لأنماط بصرية مشوشة
- تشويه مفهوم الأمان أو الحنان
- التأثير سلبًا على التكوين العاطفي للطفل إذا غابت التوجيهات التربوية المناسبة.
توجيه ذكي
وتُحذر د. سارة من استخدام أسلوب الحظر المباشر مع الأطفال، إذ قد يؤدي إلى نتائج عكسية مثل العناد أو التمرد، وتقترح بدائل تربوية أكثر فاعلية تساعد في التوجيه دون صدام، منها:
- تقديم دمى بديلة تحمل رسائل إيجابية كالطمأنينة والفرح.
- الاعتماد على القصص التفاعلية والدمى الناعمة لتعليم التعبير عن المشاعر.
- إشراك الطفل في اختيار ألعابه مع توجيهه بلطف نحو الخيارات الآمنة والمناسبة.
- الابتعاد عن الألعاب التي تعزز العنف أو تعتمد على الغموض المفرط.
- التأكد من جودة الألعاب وخلوها من المواد الضارة.
وتؤكد د. سارة أن التوجيه الواعي والمبكر لا يكتفي بإبعاد الطفل عن المؤثرات السلبية، بل يحول لحظة الفضول إلى فرصة ذهبية لتشكيل شخصية صحية، متزنة، وقادرة على التمييز والاختيار.
لعب مُعبّر
اللعب ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة نفسية عميقة تساعد الطفل على التعبير عن مشاعر لا يمكنه قولها، مثل القلق والخوف والارتباك، هذا ما يؤكده تقرير صادر عن مركز Child Mind Institute، والذي يصف اللعب بأنه لغة الطفل الخاصة لفهم العالم والتعامل مع صدماته.
وفي السياق نفسه، توضح زينب مهدي، أخصائية الطب النفسي، أن انجذاب بعض الأطفال لدمى ذات ملامح "مخيفة" كـ "لابوبو"، قد يكون انعكاسًا لصراع داخلي، وتقول: "حين يقتني الطفل دمية غريبة أو مرعبة، ربما يشعر في لا وعيه بأنه يسيطر عليها، كأنه يروض الخوف نفسه، فيحوله من شعور غامض إلى شيء يمكنه احتواؤه أو التحكم فيه".
لكن أخصائية الطب النفسي تحذر من علامات نفسية تستدعي القلق والتدخل، ومنها:
- التعلق الزائد بالدمية ورفض أي بدائل.
- اضطرابات النوم أو تكرار الكوابيس.
- سلوك عدواني أو استخدام ألفاظ مرعبة أثناء اللعب.
- تمثيل مشاهد عنف بشكل متكرر ومزعج.
وتنصح الأهل باللجوء إلى مختص نفسي إذا استمرت هذه الأعراض لأكثر من أسبوعين، لتقييم الوضع وتقديم الدعم المناسب.
خوف معتاد
في زمن الانفتاح الرقمي، لم يعد الخوف استثناء في حياة الأطفال، بل تحول إلى جزء من "روتين الترفيه"، هذا ما توضحه فاطمة حسن، استشارية الطفولة المبكرة وتعديل السلوك، مؤكدة أن التعرض المستمر لمشاهد الرعب في الرسوم المتحركة، والألعاب الإلكترونية، والفيديوهات القصيرة، جعل الأطفال يعتادونه تدريجيًا، وتقول: "شخصية مثل لابوبو ليست غريبة في هذا السياق، بل امتداد طبيعي لشخصيات رقمية تطبع الخوف وتقدمه في صورة مثيرة ومسلية".
مؤشرات مقلقة
توضح فاطمة حسن أن الخطر لا يكمن في ملامح اللعبة بحد ذاتها، بل في الأثر النفسي الذي تتركه على الطفل، وتلفت الانتباه إلى مؤشرات تستدعي الملاحظة والتدخل، منها: نوبات غضب مفاجئة، تقلبات حادة في المزاج، التقمص الزائد لشخصية الدمية، والارتباط المرضي بها لدرجة رفض الانفصال عنها.
وتحذر من تجاهل هذه الإشارات، لما لها من أثر ممتد على الصحة النفسية، مشددة على أهمية الحوار مع الطفل، والمراقبة الهادئة، والتدخل المهني إذا لزم الأمر.
جاذبية غريبة
لفهم سر التعلق بلعبة لابوبو، تقدّم ندى الشناوي، الكاتبة المتخصصة في أدب الرعب، تحليلاً دقيقًا لتصميمها البصري، كاشفة عن عناصر القلق والتوتر التي تحفّز ارتباطا نفسيًا غامضاً لدى الأطفال:
1. الابتسامة المفترسة: الابتسامة العريضة المصحوبة بأسنان حادة تثير نفورًا لا شعوريا، فهي لا تُقرأ كرمز للود، بل تذكّر العقل الباطن بالكائنات المفترسة، مما يولد شعورا بالخطر لا بالألفة.
2. نظرات ميتة: رغم أن العيون الواسعة ترتبط عادة بالبراءة، فإن الجمود المبالغ فيه في نظرة الدمية يثير القلق؛ تعرف هذه الظاهرة نفسيا بـ "عيون الدمية الميتة" (Dead Doll Eyes)، حيث يبدو الكائن حيًا لكنه يفتقر إلى الروح.
3. التناقض المربك: الدمية تبدو من الخارج ناعمة ومصممة بشكل طفولي، لكنها تحمل ملامح مشوشة لا تنتمي لعالم الطفولة، هذا التصادم يخلق حالة من "عدم التوافق المعرفي"، وهو اضطراب نفسي ينشأ عندما لا تتطابق التوقعات مع الواقع، مسببا توتراً داخليًا.
4. تفاصيل غير منطقية: وجود أجنحة معدنية في دمية ناعمة يحدث تشويشا بصريًا يعزز الإحساس بعدم الطبيعة، بل قد يثير إيحاءات خفية ذات طابع سوداوي أو شيطاني.
5. كائنات هجينة: الدمية تجمع ملامح وجه بشري داخل هيئة حيوانية، ما يذكّر بنماذج "الكائن الهجين" المنتشرة في الأساطير المرعبة، يطلق على هذا النمط "التمويه المقلق"، حيث يبدو الشكل مألوفا وغريبا في آن واحد، مما يزعزع شعور الأمان.
وتوضح الشناوي أن لابوبو تنتمي إلى مدرسة "الظرافة المرعبة" (Creepy Cute)، وهي توجه بصري وفني يعمد إلى دمج التناقضات: الطفولة مع الرعب، والجمال مع التشويه. هذا الأسلوب، الشائع في الأنمي وتصميم الألعاب والأزياء، يعتمد على إثارة مشاعر مختلطة من الجاذبية والنفور، مما يزيد من تعلق الأطفال بها.
استهلاك رمزى
يرى الدكتور وليد رشاد، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن الانتشار الواسع لدمية لابوبو يجسد ظاهرة "الاستهلاك الرمزي الرقمي"، حيث لم يعد المستهلكون يشترون المنتجات لقيمتها أو وظيفتها، بل لما تعكسه من صورة اجتماعية وانتماء بصري. فالدمية تحولت إلى رمز ترند عالمي، يعبر عن هوس جماعي يعكس عمق التورط في ثقافة استهلاكية تلهث خلف الجديد، ولو كان بلا معنى.
مهرب بصري
ويوضح د.رشاد؛ أن هذا الهوس يأتي في لحظة فارقة يمر بها العالم، وسط أزمات كبرى من الحروب إلى الأوبئة وتغير المناخ، ما يخلق حالة عامة من اللايقين تدفع الناس للبحث عن "مهرب بصري" خفيف، وهو ما تقدمه دمية مثل "لابوبو" التي اجتاحت الأسواق العالمية ولفتت أنظار المشاهير.
هوس استهلاكي
فقد ظهرت الدمية في يد عدد من النجوم العالميين، مثل ريهانا و"ليزا" عضوة فرقة Blackpink، حتى وصلت إلى السجادة الحمراء لمهرجان "كان" السينمائي لعام 2025، وهو ما ضاعف من شعبيتها، تبع ذلك مشهد غير معتاد من الهوس الاستهلاكي؛ طوابير أمام متاجر "بوب مارت"، وارتفاع أسعار النسخ النادرة بشكل جنوني، حيث بيعت نسخة منها في مزاد بالصين مقابل 150 ألف دولار، وأخرى باللون البني مقابل 114 ألف دولار، بينما تتراوح أسعار النسخ الأصغر ما بين 5000 إلى 7000 دولار، وتُستخدم غالبًا كإكسسوارات تزيّن حقائب المشاهير الذين وصفوها بأنها تضيف "بهجة خفيفة" إلى الإطلالة.
ويكشف د.رشاد عن حيلة تسويقية بارعة اعتمدها متجر "بوب مارت"، وهي بيع الدمية داخل صناديق مغلقة لا تُظهر النسخة قبل الشراء، ما خلق عنصر مفاجأة دفع كثيرين لتكرار الشراء للحصول على النسخة المرغوبة، هذا التكتيك أدى إلى تكدسات وصلت حد الفوضى في بعض الدول، مثل بريطانيا، حيث اضطرت السلطات إلى إغلاق بعض فروع المتجر في لندن.
الأمر لم يتوقف عند الموضة أو التسوق، بل امتد إلى المجال المصرفي؛ ففي الصين، قدمت بعض البنوك عروضا ترويجية تمنح دمية لابوبو لأي شخص يودع 50 ألف يوان خلال فترة محددة، ما أثار جدلاً قانونياً واعتُبر خرقاً لقواعد العمل المصرفي، وأطلق نقاشًا واسعا حول أخلاقيات التسويق في العصر الرقمي.
ويؤكد د.رشاد أن ظاهرة لابوبو تكشف تحولات عميقة في أنماط القيم وأنساق التميّز الطبقي، إذ لم تعد الألعاب مجرد أدوات ترفيه، بل رموزا تستخدم لإثبات الذات والتميز الاجتماعي في ثقافة استهلاكية بصرية.
ويوضح أن الظاهرة ترتكز على عدة عوامل متشابكة، أبرزها:
- تصاعد تأثير المؤثرين في تشكيل الذوق الاجتماعي.
- الهوس بكل ما هو جديد أو "ترند"، بغض النظر عن الوظيفة.
- تسويق منتجات عبر رموز طبقية تُشير إلى نمط حياة معين.
- خلق طلب على منتجات لم تكن مطلوبة أصلا.
- استراتيجيات تسويق تلعب على وتر الندرة والتميّز.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية