تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الأعياد فى مصر لها عمق حضارى فقد ظل المصريون يعيشون أفراحهم وأحزانهم، ويتكلمون بنفس الروح القديمة، فالتراكم الحضارى والتراثى فى الشخصية المصرية هو سر قوة مصر. وحين يتغرب المصرى عن مصريته يصبح بلا وعى ولا حضارة فيكون فريسة سهلة للتطرف والانحراف على كل المستويات.
وفى مصر نجد فى الأعياد تلاحم كل المصريين، فلا أحد يعرف هل المحتفلون مسيحيون أم مسلمون. وهكذا منذ القديم يخبرنا المؤرخون العرب والرحالة، مثل الرحالة «على بن الحسن» فى كتاب «مروج الذهب» وهو رحالة من بغداد جاء إلى مصر عام 957م وقد صادف مجيئه عيد الغطاس فوصف هذا اليوم وقال: «يخرج الناس إلى النيل، وقد وجد أكثر من ألف مشعل وشموع وفوانيس، وآلاف المسيحيين والمسلمين يخرجون من بيوتهم فى تلك الليلة ويأتون بالمشرب والملبس ويعزفون الموسيقى ويغنون وهى أحسن ليلة فى مصر، لا تغلق الأبواب ولا الدروب ويغطسون فى النيل».
ويصف مؤرخ آخر وهو ابن إياس (1448 – 1523م) ويقول عن عيد الغطاس فى مصر: «إن نهر النيل يمتلئ بالمراكب والزوارق ويجتمع بها السواد الأعظم من المسلمين والنصارى، فإذا دخل الليل تتزين المراكب بالقناديل وتشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس وينزل رؤساء القبط فى المراكب، ولا يغلق فى تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء فى بحر النيل النصارى مع المسلمين سويا، ويزعمون أن مَنْ يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف فى تلك السنة».
ويقول المسعودى أيضا الذى عاصر الدولة الإخشيدية فى مصر: «ليلة الغطاس فى مصر لها شأن عظيم، فالمصريون من مسلمين وأقباط يذهبون إلى النيل ويطوفون بالمراكب والمشاعل والشموع، ويجلسون على الشطوط يأكلون ويشربون ويتسامرون، وتكون أحلى ليلة فى مصر ويغطس أغلب الأقباط فى النيل إذ يزعمون أنه يُطهر من أى داء». وهذا لأن عيد الغطاس مرتبط بمياه النيل، وهو الذى كان ولايزال يعيش فى وجدان المصريين بقيمة كبيرة. وقد كان النيل فى الفكر المصرى القديم له قيمة كبيرة حتى إنهم أطلقوا عليه إحدى صور تجلى القوى الإلهية «حابي» فهو قوة اللـه وروح النيل المقدسة. وصور تجلى الإله فى الفكر المصرى القديم غير جوهر الإله فهى كما كانوا يطلقون على تلك الصور الإلهية «نترو»، وهى كلمة مصرية قديمة لا تترجم على أنها «الإله» بل «المنتمى إلى عرش الإله»، وهذا خطأ وقع فيه كثير من الذين كتبوا عن الأفكار المصرية القديمة وعن الإله. فقد كان النيل مقدسا لأنه شريان الحياة ومصدر الخير فصاغوا عنه أساطير تعبر عن قدسيته، فكانوا يُعيدون له عيدا عظيما اسمه «وفاء النيل».
وكان يوافق الثانى عشر من بؤونة حيث يصل الفيضان إلى الجيزة، وكان يسمى «ليلة الدموع» لأن من ضمن الأساطير أن فيضان النيل حدث حين جلست «إيزيس» على ضفافه تبكى حزنا على زوجها «أوزوريس» الذى ذبحه «ست» وقطعه فسقطت دموعها وامتزجت بمياهه ففاض النيل.
وكانوا فى هذا الاحتفال يصنعون الكعك وهو عبارة عن حلوى مستديرة الشكل وتنقش عليها أشعة الشمس علامة على تقديس العيد، وكانوا يقدمون الفواكه ويأكلون الأسماك. وظلت هذه الاحتفالات حتى دخلت المسيحية مصر فلم يعد الفكر القديم للديانة المصرية له وجود، ولكن ظلت العادات والحياة اليومية التى فيها هذه الأعياد لاتزال قائمة فلم تلغ الكنيسة تلك العادات، بل احترمتها الكنيسة ووضعت لها ميعادا أخر مرتبطا بالمياه وهو عيد نزول السيد المسيح إلى مياه الأردن المسمى عيد الغطاس، فصار العيد والاحتفال فى النيل لكل الشعب بكل فئاته، فبعد قداس العيد يذهبون إلى شاطئ النيل ويغطسون فيه ويركبون المراكب النيلية وهم فرحون ويأكلون حتى فجر اليوم الجديد.
وقد أشار المؤرخون والرحالة باشتراك كل المصريين فى الأعياد، فنسيج الحضارة المصرية عميق فى وجدان المصريين من مسلمين وأقباط. فكما رأينا الفانوس فى الأعياد المسيحية صار الفانوس أيضا رمزا لشهر رمضان، وإن كان الفانوس له تاريخ فى الأعياد المصرية القديمة فاستخدم فى الأعياد المسيحية كما يقول المقريزي: «أدركنا عيد الميلاد بالقاهرة وفيه تباع الشموع المزهرة يسمونها الفوانيس ويعلقونها فى الأسواق».
وهكذا استخدم أيضا فى الأعياد الإسلامية فى شهر رمضان، ويقول المؤرخون إن الخليفة الفاطمى المعز لدين اللـه حين دخل القاهرة فى السابع من رمضان عام 972م ليلاً استقبله المصريون حاملو الفوانيس والشموع وصاروا يطوفون حول قصر الخليفة بفرح وتهليل. وارتبط أيضا بشهر رمضان، إذ كان فى ليلة استطلاع الهلال يخرج الخليفة ومعه المشايخ وخلفهم الأطفال يحملون الفوانيس، وحين يستطلعون الهلال تعلق الفوانيس على مآذن الجوامع إعلانا بقدوم شهر رمضان. ويطوف الأطفال فى الشوارع بالفوانيس وهم يغنون أغانى تراثية قد حفظوها من جيل إلى جيل، وهى «وحوى يا وحوى إياحا» وهى كلمات مصرية قديمة تعنى «استقر استقر يا قمر» أى القمر قد ظهر. وكانت تلك الأغنية قد استقبل بها المصريون البطلة العظيمة طاردة الهكسوس «إياح - حتب» وهى زوجة الملك «سقنن -رع» وأم الملك «أحمس»، وكانوا يغنون لها مع كل إشراق للقمر تخليدا لبطولتها لأن اسمها يعنى القمر. ويغنون أيضا «حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو» وهى كلمة قبطية تعنى «الشيخ» لتكون الأغنية «يا شيخ يا شيخ رمضان كريم» وهذا كى يأخذ الأطفال الحلوى من الكبار فى البيوت. وهكذا نجد أن مجتمعا يعيش بهذه الحضارة لا يمكن أبدا لأى قوة أن تعبث به. الرب يحفظ بلادنا قوية وعصية على الأعداء.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية
مشاركة
٠ إعجاب
حفظ
هل تريد إضافة تعليق ؟